مصر الآن وكأنها عمارة تم بناؤها بمعرفة مقاول فاسد، استخدم مهندسين فاشلين وفاسدين فأتى التصميم قبيحاً ومعيباً. وارتفع البناء على مواد مغشوشة من حديد وأسمنت وخلافه. أما قطعة الأرض فرائعة وثمينة، وكثير من السكان موهوبون وأكفاء. ثاروا بعدما عاشوا فترة طويلة وهم يدركون تماماً - بعقلهم وحدسهم - أن البنيان معرض للسقوط في أي وقت. وحدثت الثورة وتم التخلص من المقاول الجاهل - محدث النعمة -وبعض أعوانه. أما البناء فلم يتم هدمه بالكامل، وما زلنا نحن السكان نشعر بالخطر لأن الأساس تحتنا ما زال هشاً، والبنيان الذي تخلل الفساد في جميع جنباته ما زال الكثير من أركانه وجدرانه قائم. ومن هنا أصر نفر من الثوار على تعقب ما استطاعوا من أركان البناء الفاسد حتى التخلص منه، وحسناً فعلوا! فقد ذهبت حكومة ترقيع وجاءت حكومة جديدة ومتينة بفضل الإصرار على رحيل معاون المقاول الذي عينه المقاول الكبير المخلوع!
ونحن نريد أن نستغل الأرض الثمينة الجميلة ونبني فوقها سكناً ووطناً حديثاً وراقياً وبديعاً، يقوم على أساس متين وآمن. سوف يستغرق ذلك زمناً ولا شك، لكن رؤية مهندسين ومقاولين وعمال بناء أقوياء وأكفاء وأمناء يجعلنا نطمئن أن البناء الذي سوف نسكنه في المستقبل أجمل وأفضل كثيراً مما كان عليه في الماضي.
لكننا ما زلنا في مرحلة مبكرة من إرساء نظام محكم لإبقاء أهل العلم والأمانة، وإقصاء أهل الجهل والخيانة! كيف نتخلص من عفريت المقاول الجاهل الفاشل، الشهير بمبارك، حتى لا يتم استنساخ روحه والعودة إلينا في شكل جديد، فننتظر ثلاثين عاماً أخرى حتى نكتشف أننا تعرضنا لعملية استنساخ عفاريت قديمة في أجساد جديدة؟!
هناك ضمانات عديدة مطبقة بالفعل لدى من سبقونا إلى الديمقراطية والحرية. علينا أن نستعير أفضل ما وصل إليه الإنسان، في كل مكان.
أبسط وأوضح ما يجب الإصرار عليه في بناء مستقبل مصر هو تواجد مراكز قوى متعددة ومستقلة تماماً عن بعضها البعض، بحيث لا يستطيع مركز قوى واحد أن يتمدد كالسرطان ويستولي على زمام كل شيء. وهنالك ثلاثة جهات استقلالها ضرورة لا غنى عنها في مقابل مؤسسة الحكم.
القوة المستقلة الأولى: شيخ الأزهر وبابا الأقباط.
والمؤسسة الدينية بشكل عام. يجب أن يتكلم الإمام في المسجد والقس في الكنيسة دون أن يفكر في خطوط حمراء تخص المؤسسة الحاكمة. يجب أن يتم انتخاب شيخ الأزهر بواسطة علماء الأزهر، ولا يستطيع إبعاده إلا الذين انتخبوه. يجب ألا يشعر بابا الأقباط أو شيخ الأزهر بأي حرج في نقد وانتقاد سياسات وقرارات المؤسسة الحاكمة.
القوة المستقلة الثانية: الجامعة.
الشباب هم عادة محركو التغيير، والجامعة توفر بيئة مثالية لشباب الوطن أن يجتمعوا ويعملوا سوياً وينظروا للواقع ويتخيلوا المستقبل. التغيير الجذري عادة ما يأتي من شباب العشرين وليس من شيوخ الستين والسبعين. والجامعات هي مخزن طاقة البلد. هذه الطاقة يجب أن تظل مستقلة وحرة كقوة مراقبة لأداء الحكومة.
القوة المستقلة الثالثة: الإعلام (الخاص والقومي).
مؤسسة وجريدة الأهرام تعود إلى القرن التاسع عشر. هي بلا شك أقدم وأكبر من مبارك أو أي رئيس غيره أو نظام حكم. تحولت هي وغيرها بشكل معيب من مؤسسة مصرية إلى مؤسسة مباركية تخدم نظام الحكم وسدنته. ما يسمى بالصحف "القومية" يجب أن يتم ضمان إخلاصها لاسمها. فكون جريدة أو مؤسسة صحفية "قومية" يعني فقط أنها ملك للشعب، هو وحده السلطة التي تحرك هذه الصحافة. ومن ثم يجب أن تستقل تماماً هذه الصحف عن مؤسسة الحكم، حتى تمارس دورها كمركز قوة مستقل يقف في وجه مراكز القوى الأخرى ويحد من سلطتها وسلطانها.
الوطن ملك لجميع أبنائه. الوطن يعني أن كل من ولد فوق هذه الأرض له حق في مواردها. هناك حقوق أساسية يجب أن تتوفر لكل فرد، وهناك فرص إضافية تتاح لكل مواطن على قدر جهده وشطارته. ولأن الوطن للجميع فيجب أن تكون مؤسساته أيضاً ملك للجميع. يجب حماية كيان هذا الوطن من الوقوع عبداً لنظام أو سلطة بعينها. والاستبداد أنواع كثيرة ووجوه مختلفة، فهناك استبداد رئاسي، وآخر ملكي، وآخر مؤسسي. والضمان في رأيي هو تواجد عدد كبير من المؤسسات المهمة مستقلة عن بعضها البعض وعن المؤسسة الحاكمة، وأن يتعلم الجميع تقديس هذا الاستقلال لأنه الضمان الوحيد لبقاء البلد حراً من النصابين والنهابين. في أرضنا متسع لكي يعيش كل مصري مثلما يعيش الأوربي والأمريكي، وربما أفضل، فحتى الديمقراطيات الأقدم يسقط بعضها في براثن أنواع أخرى من الاستبداد، مثل استبداد الشركات الضخمة. لا مفر من "تقديس" استقلال الدين والإعلام والتعليم حتى نضمن حرية حقيقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق