قضيت ليلة أمس في جلسة مصرية مغتربة على مائدة يجتمع حولها تمثيل
لأطياف المصريين جميعاً أو يكاد (ثوريون ليبراليون، محبون للإخوان، محبون لشفيق،
محبون للراحل عن السباق الرئاسي حازم أبو اسماعيل) نتحاور ونتجادل على مفترق
الطريق الانتخابي. الأغلبية سوف تختار مرسي، عدا معسكر شفيق، وحتى أعتى معارضي
الإخوان قرروا قراراً واضحاً ومتعجلاً بالانضمام لصفوف الإخوان بشكل مؤقت لمواجهة
الخطر الأكبر في رأيهم. لكن كانت هنالك قلة لبثت في النفي لا تستطيع مفارقته: رفض
العسكر والإخوان معهم. وكنت أنا منهم. ولا أنكر أنني فكرت بيني وبين نفسي، وتخيلتني
واقفاً أمام ورقة الانتخاب: هل يستطيع قلمي النظر لشفيق دون البصق عليه؟ ثم هل
أستطيع أن أخالف خلاصاتي الفكرية كلها عن جماعة الإخوان وأعطي صوتي لمرسيهم؟ أم
أقاطع الانتخابات؟ وهل المقاطعة سلبية؟ الواقع أنني ظللت في حيرة حتى اطمأننت إلى
المخرج الوحيد الذي أقنع عقلي وأراح ضميري، وهو ما أعرضه ها هنا، ليس لأقنع أحداً،
فهو رأي سوف يقنع البعض لكنه لن يقنع الكثيرين على الجانبين. وهو اجتهاد شخصي
فلسفي يلزمني وحدي ومن شابه تفكيرهم تفكيري، وكل يلزمه اجتهاده.
خلاصة المخرج الذي أراه وحيداً لخلاص مصر وانتصار الثورة هو الثبات في
النفي “الإيجابي” حتى يتبين لنا ما يستحق الإثبات الحق. وهو طريق محفوف بالمكاره
لكن آخره الجنة! وهو أيضاً طريق وطريقة نبي الله إبراهيم عليه السلام التي انتصر
بها على الوثنية والأوثان!
لك أن تظن أنني متفلسف مجنون. ولك أن تكتفي بهذا القدر أو تصبر معي حتى
أشرح وأبين فيما يلي من سطور.
دعنا أولاً نوضح ما هو واضح. هناك فريقان لا تؤرقهما ذرة من حيرة،
وحلنا هذا ليس لهما قطعاً، الطرفان هما منتخبي شفيق ومؤيدي الإخوان منذ البداية.
هذان الحزبان يحاولان الآن اجتذاب “الطرف الثالث” اللاإخواني-لافلولي حتى ترجح به
كفة أحدهما.
دعني أيضاً أقول صراحة أن رأيي وخلافي مع منتخبي الإخوان وبعض منتخبي
شفيق لا يسمح لي أو لغيري بتخوين أي مصري، ففيما عدا المجرمين المعروفين فالكل
يختار وفقاً لما يراه من مصلحة بلده، واتخاذنا موقف بعينه لابد أن يظل في إطار حسن
الظن بإخلاص المخالفين، حتى لو أسأنا الظن بقدرتهم على الحكم وظننا فيهم قصر النظر.
لعله من الجيد أن أقرر بوضوح أن مسار الثورة الحالي يتكون من ثلاثة
أطراف متباينة وليس طرفان كما يظن البعض، والأطراف الثلاثة هي: 1. العسكر والفلول
2. الثوريون المثاليون 3. الإخوان. أما العسكر والفلول فواضحون تماماً أمام
أعين الثوار ولا لبس فيهم. وأما الوهم الأهم الذي يجب معالجته هو أن الإخوان
والثورة ليسا طرفاً واحداً بأي حال من الأحوال، بل هما طرفان نقيضان. والإخوان
موقفهم غريب بعض الشيء، فبينهم وبين العسكر مصالح مشتركة وأخرى متنافرة، والشيء
ذاته مع الثورة، لهم مع الثورة بعض المصالح المشتركة وأخرى متناحرة.
اللافلول-لاإخوان لن يعطوا أصواتهم لشفيق قطعاً. وهم في ذات الوقت
ضائقون أشد الضيق بأداء الإخوان الذي رأوا فيه إعلاء لمصلحة الجماعة على مصلحة الثورة
ومصلحة مصر. وهم أيضاً لا يثقون في مستقبل الثورة بين يدي الإخوان بعدما رأوه
منهم. ورغم كل ذلك تعجل هؤلاء في إعلان تأييدهم – غصباً عنهم! – للإخوان لأن شرهم
أهون، مهما كان، ولأنهم لا يحملون سجلاً جنائياً مباشراً وجلياً مثل سجل العسكر
والفلول. ثم هناك بعض هذا الفريق الذي لا يستطيع أن يتجرع دواء الإخوان المر
والمشكوك في أمره للعلاج من سم النظام المباركي، هؤلاء قرروا مقاطعة انتخابات
الإعادة وإبطال أصواتهم. فأي الطريقين نختار، نحن اللافلول-لاإخوان، تحالف مؤقت مع
الإخوان، أم انسحاب ومقاطعة؟ هنا كان مكمن العذاب والحيرة، ثم الحل الذي انتهيت
إليه (ومعي نفر قليل ممن أعرف وأتابع)، والتأصيل الثوري والفكري والفلسفي له!
الحل الذي أشرت له بداية هو الثبات في النفي، في “لا”. التجلي العملي
له في انتخابات الإعادة هو الذهاب إلى الانتخابات وكتابة “لا للفلول ولا للإخوان”
أمام شفيق ومرسي. لكن الحل جذوره أعمق وأفقه أوسع من ذلك، فهو موقف ثوري وفكري
متكامل. هذا الحل لا يقبل بمجرد المقاطعة، فالهدف من إبطال الصوت إبطالاً إيجابياً
هو إعلان موقف وكتلة رافضة واضحة العدد والصوت، وليست صامتة في الظل. هذه الكتلة الرافضة،
وعددها في الواقع ملايين تفتتوا غالباً بين صباحي ثم أبو الفتوح، لو قاطعت تماماً
فكأنها لم تكن، ولو أعطت صوتها لمرسي فقط انمحت داخل الإخوان وفقدت كيانها
المتميز. ولو حصل بها الإخوان على أغلبية فلن يذكرونها على أنها الكتلة التي
انتخبتهم على مضض، لكنهم سوف يستخدمونها للتلويح بأن الأغلبية معهم وانتخبتهم،
وبالتالي فعلى الأقلية أن تصمت من بعد وتدعهم يعملون في هدوء!
قد تظن أن الثبات في النفي – “لا” لكل الأطراف المرفوضة حتى لو لم
يتوفر طرف نقول له “نعم” – هو سلبية. لكني أذكرك أنه عين الثورة وسبب النجاح
المبدأي في إسقاط مبارك. لقد سقط مبارك لأن الجماهير اجتمعت على التمسك والثبات
على “لا”، دون تقديم أي بديل. لا لمبارك، ولا لكل بيان وتنازل ووعد قدمه، لا وفقط.
لم تكن هنالك أي “نعم” في الأفق في ذلك الحين. وكان هذا بالضبط هو سبب النجاح
“السينمائي” الساحق للثمانية عشر يوم الأولى من الثورة. أما خطأ الثورة الفادح،
الذي أدركته قلة في حينها وكثرة مع مرور الوقت، فكان هو التعجل في ترك “لا”، في
الخروج من النفي إلى إثبات ما لا يستحق الإثبات. لو واصلت الثورة “لا” لكل بقايا النظام
لما أعطيناه عاماً ونصف العام يسترد فيه الأنفاس ليقضي على الثورة على نار هادئة.
وأحد أهم أدوات النظام في التعجيل بهجر “لا” هو جماعة الإخوان نفسها. هكذا خف
الضغط، و”لا” النافية كانت تمثل ضغطاً لا يحتمل، عن صدور الفلول والنظام فاستطاعوا
التفكير والعمل في هدوء وأوصلونا لمأزقنا الحالي.
سوف أضيف تأصيلي الفلسفي/القرآني الخاص لموقف الثبات في النفي قبل أن
أستفيض قليلاً في مخاطر استعجال إثبات ما لا يستحق الإثبات، ولو بشكل مؤقت.
والمرجع هنا قصة أبي الإنبياء إبراهيم عليه السلام في رحلته لهدم أصنام قومه.
فلسبب ما رأيت فيها إشارات يمكن تطبيقها على الموقف الحالي. لقد بدأ النبي العظيم
رحلته إلى الله/الحق بإدراك “لا”،
هؤلاء “ليسوا” آلهة تستحق العبادة. لم يكن يعلم شيئاُ عن الله. فقط رفض الأصنام.
ثم بحث عمن يستحق العبادة، فأعجبه القمر لوهلة، حتى أدرك حقيقته. ثم
رأى نجماً أكبر وأعظم من الأصنام ومن القمر في عظمته وبهائه وقوته، فظنه يستحق “الإثبات”،
يستحق “نعم”، ولكن أيضاً لوقت محدود، حتى انتبه لحقيقة أفوله المتكرر كل يوم. بعد
أن يأس النبي من كل ما بدا له من آلهة زائفة، قرر الثبات في النفي، قرر الثبات في
“لا”، دون أن يضمن وصوله للحق. هو فقط ثابر وصبر في نفي ما لا يستحق الإثبات.
حينها فقط تولته العناية الإلهية! هذا طريق أهل الحق، وهو ليس سهلاً، فسوف
تكون إحدى محطاته، بلا شك، نار يوقدها الغافلون – المثبتون لما يستحق النفي! –
لأهل “لا” المخيفة، الفوضوية، عدوة الاستقرار وما عهدنا عليه آباءنا وجماعاتنا!
لعلك أدركت ما أرمي إليه من تشبيه: النظام القديم هو الأصنام، والقمر
هو العسكر والفلول، والشمس هي جماعة الإخوان! والنفي الثابت الذي ثابر عليه نفر
قليل هو نفي الباطل وما بني على باطل، وكل مسار ما بعد إسقاط مبارك باطل ومصائبي.
أعلم أنك ما زلت تقول: لكن الإخوان ليسوا بهذا السوء، إذا كنت من مؤيدي
الإخوان القدامى أو من “المضطرين” في الإعادة بين مرسي وشفيق. أما من يفضلون
الشيطان على الإخوان فما زالوا يقولون: لكن شفيق والعسكر أرحم من دولة ديكتاتورية
دينية لا يكون المعارض فيها معارضاً وفقط ولكن معارض وكافر عليه لعنة الناس
أجمعين! وأصر أنا ومن معي: لا هذا ولا ذاك. “لا” لمن لا يستحق “نعم”، على أن تكون
لا واضحة صريحة موثقة، وليست لا سلبية صامتة.
تعال معي نتصور مسار كل “نعم”، مسار عبادة القمر أو عبادة الشمس! سأبدأ
بالأسهل: لو انتصر شفيق. أرى في هذا المسار احتمالين: سوف ينتصر شفيق، ثم يعطي
مهلة للإخوان ومجلس الشعب أن يصبحوا معارضة مستأنسة من لزوم الوجاهة الديمقراطية.
وسوف يكون لهم بالطبع خطوطهم الحمراء. إما أن يقبل الإخوان ذلك، وهو عودة صريحة
لعصر مبارك، لكن أسوأ بالطبع. فسوف يتم التخلص الهاديء والتدريجي من “رؤوس الفتن”.
والاحتمال الآخر هو انقضاض وحشي على الإخوان بغرض القضاء التام عليهم، بشكل يختلف تماماً
عن علاقة الإخوان بنظام مبارك. ففي زمن مبارك كانت العلاقة شد وجذب، تفاهم هناك
وسجن وتعذيب هنا. ويمكنك الرجوع لتصريحات قادة الإخوان في هذه الفترة، بداية من
المرشد يعلن موافقة الجماعة على تولي جمال مبارك الرئاسة خلفاً لمبارك، ومروراً
بصور صبحي صالح الحميمة مع زكريا عزمي، وانتهاء بتصريحات محمد مرسي عن شخصيات
“وطنية” هم تماماً رؤوس الفساد في النظام المتساقط. وهذا احتمال كارثي لسببين،
أولهما أنه لا يمكن قبول التعامل الأمني مع الإخوان للقضاء عليهم لأنه في كل
الأحوال منهج ظالم غير أخلاقي، وثانياً لأن الإخوان لو تم وضع وجودهم نفسه في خطر
فقد تتجه مصر إلى صراعات مسلحة.
أما سيناريو فوز مرسي في رأيي فهو بقاء العسكر خلف الستار، وإعطاء بعض
الصلاحيات الجزئية للرئيس، فيما يشبه نسخة معدلة من حكومة شرف. ولو حاول الإخوان
الحصول على أكثر مما يريد العسكر إعطاؤه فما أسهل تدبير انقلاب عسكري عليهم، أو
إخراج ملفات، حيقيقة أو مفتعلة، تنهي وجود الإخوان. والاحتمال الأقرب هو سلوك
الإخوان طريق النفس الطويل: الرضا بما قسمه لهم العسكر في الوقت الحالي من صلاحيات
جزئية، والتخطيط طويل الأمد حتى إحلال الجماعة في الجيش والداخلية على مدى العقد أو
العقدين القادمين، فالقيادات العسكرية الحالية إلى موت وزوال أما الجماعة فباقية.
ولن نفيق بعدها إلا على دولة مصرية يسيطر عليها فصيل واحد. ومهما آمنا أن هناك ألوف
مؤلفة من المخلصين الطيبين في صفوف الإخوان، إلا أن الواقع يقول أن السلطة المطلقة
تأتي بالذئاب وتهمش الحملان أو تأكلها! إن الرهان على العناصر الطيبة داخل
الإخوان رهان خاسر، لأنهم إما أنهم يكتفون بالمعارضة الداخلية – داخل الجماعة فقط
– غير الفعالة، أو يقنعون أنفسهم أن قياداتهم لها ولا شك رؤية تخفى عليهم وبالتالي
يعطونهم ثقتهم وطاعتهم، أو يعترضون حقاً فتلفظهم الجماعة. يعني في كل الأحوال تمكن
الإخوان من خيوط الحكم كلها لن يأتي إلا بأسوأ ما فيهم. ولن يحدث ذلك فجأة بالطبع،
ولكن بالتدريج سوف يقوم محامون مجهولون مثلاً بإقامة دعاوى ضد الكتاب والفنانين
والمفكرين المخالفين، جميعها باسم الدين، وبالتدريج ننزلق إلى نموذج “الثورة
الإيرانية”.
لعلني أطلت أكثر من اللازم وقد أكون عجزت عن تبيان كل ما أراه. لكن
الخلاصة أني أرى الثبات في نفي كل ما لا يستحق “نعم”، حتى ولو لم يتوفر لنا
البديل الجدير في الأفق المرأي. واستكمال الثورة بروح “لا” الجبارة التي تقضي في
طريقها على كل باطل. وسقوط الباطل، الواحد تلو الآخر، سوف يأتي تلقائياً بحقائق
جديدة وجديرة، لو صبرنا كما صبر أبونا إبراهيم عليه السلام!