السبت، مايو 10، 2008

عبقرية أم


هذا كتاب قرأته منذ بضع سنوات. لكنه من الكتب التي تترك في عقلك ونفسك أثراً لا يمحوه مر الزمان، ولا يقدر عليه النسيان. لا تظن أن "عبقرية أم" هو عنوان الكتاب. وإنما هو عنوان باطن في قصة هذا الجراح الأمريكي الشهير. فهذه أم أمية، لا تقرأ ولا تكتب، مطلقة، فقيرة، تعمل خادمة في بيوت الناس، لكنها أدركت بفطرة نقية وعقل سليم كيف تحول حياة ابنها من القاع إلى القمة، وآمنت بقيمة الكتاب وبقدرة العلم على التغيير، وإن لم تتح لها الحياة أن تحظى منهما بنصيب.

الكتاب عنوانه Think Big أو التفكير الكبير، وهو تعبير شائع في الثقافة الأمريكية. ومعناه ببساطة أن يطلق الفرد أحلامه وطموحه إلى عظائم الأمور والإنجازات، بدلاً من القنوع بصغائرها، وبغض النظر عن إمكاناته المتاحة في حاضره. فكل كبير قد بدأ صغيراً. وكل من اعتلى القمة بدأت نحوها خطواته من القاع.

بعد انفصال والدي بن، عاش هو وشقيقه مع أمهما. كانت الأم، العائل الوحيد للأسرة، جاهلة فقيرة، وسوداء في ظروف ضيقت على الأسود معيشته بسبب لون بشرته. ولم يؤهلها ذلك إلا للعمل كخادمة في بيوت ميسوري الحال. وبدأ بن في دراسته الابتدائية كأي طفل في مثل ظروفه. كان معروفاً لدى قرنائه أنه أغبى تلميذ في الفصل. وكانت سيرة من شابه حالهم حاله هي ترك المدرسة والحياة في الشارع، وربما تعاطي المخدرات والاتجار فيها، والانضمام إلى عصابة صغيرة أو كبيرة في منطقته. غير أن الأم ذات يوم من الأيام، أخذت قراراً واحداً، غير مستقبل ولدها بن كارسون Ben Carson إلى أبد الآبدين!

كانت الأم تعمل في بيوت الأثرياء، وترى كيف يعيشون. ولم تكن فطرتها قد فسدت لكي ينتج عن ذلك حقد عليهم، أو قبول لهذا الاختلاف بين حياتها وحياتهم على أنه قدر لا سبيل لتغييره. كانت تقول لولدها بإلحاح، أنت ذكي وتستطيع أن تكون مثل هؤلاء الأغنياء. لست أقل منهم في شيء يا بن، لديك كل الإمكانات التي تؤهلك لكي تكون ناجحاً وعظيماً. كانت تؤمن بذلك وتبث في نفس ولدها ثقة في نفسه، لكن ذلك لم يكن كافياً بعد لكي يغير الطفل الصغير من عاداته أو يفعل شيئاً لمستقبله. فالإنسان في طفولته عجينة طيعة ملأى بالإمكانات والبذور، غير أنها عجينة عاجزة لا تدرك كيف تروي بذورها وتروي أرضها الخصبة. وذلك دور الأهل الذي كثيراً ما يغفلون عنه. وذلك أيضاً مصداق قول رسول الإسلام: كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته.

كانت الأم ترى كيف أن الأغنياء يقرأون، ولديهم في بيوتهم مكتبات خاصة. لابد أنها عملت لدى أغنياء حقيقيين مثقفين، مثلهم ليس كمثل بعض أغنياء الفساد والقسوة والغباء. فرأت الأم أن السبيل لإخراج ولدها من المصير المظلم الذي ينتظره هو إجباره على استغلال إمكاناته ومواهبه. وذات يوم عادت الأم إلى البيت وأصدرت قراراً بيتياً حاسماً ونهائياً. مطلوب من بن أن يذهب للمكتبة ويختار كتابين كل أسبوع ويقرأهما، ثم يكتب لها تقريراً عن كل كتاب! كل أسبوع كتابين، فإن لم يفعل، فلن يسمح له بأي مصروف ولن يستطع حتى أن يشاهد التلفاز أو يخرج ليلعب مع أصحابه. عليه أولاً أن يقضى هذا الواجب حتى يستطيع الحصول على ملذاته وأسباب لعبه ولهوه. ضاق الصبي بهذا القرار الظالم! لكنه لم يستطع إثناء الأم، فاضطر للخضوع كارهاً مضطراً.

وبدأ بن يستعير كتابين كل أسبوع ويكتب عنهما تقريراً يقدمه لوالدته. ومع مرور الوقت تحول بن تلقائياً من أغبى تلميذ في الفصل إلى أنبغهم. بل وحقق نجومية بين زملائه، وأصبحوا يأتون إليه لمساعدتهم في فهم دروسهم! وقد بدأ ذلك حينما ألقى أحد المدرسين سؤالاً لم يعرف إجابته أحد. لكن بن عرف الإجابة، ليس من كتب المدرسة، ولكن من الكتب التي قرأها تنفيذاً لأمر والدته. حينها تحرج بن قليلاً في التطوع للإجابة، وثم رأى نظرات السخرية حينما تجرأ وقام للإجابة. ثم فاجأ الجميع بإجابة أكثر من وافية، إجابة قاريء خبير! حينها أدرك بن أن هذه القراءات تحقق له تميزاً وتفرداً، وتجلب له الإعجاب والاحترام. فعرف للقراءة قدرها، ولذتها، كيف أنها توسع عالمه، وترفع قدره. فاستمر في أداء الواجب القرائي بدافع ذاتي، وانتهى به الحال طبيباً وجراحاً مشهوراً وكاتباً ومحاضراً لامعاً. وأنشاً طلبة في الولايات المتحدة جماعات باسمه تحاول تنفيذ خطة هذه الأم العبقرية، قرائة كتابين في الأسبوع!

فانظر كيف أدركت الأم أن القراءة هي سبيل إجبار ولدها على إحياء قدراته وتحقيق النجاح في حياته. ثم انظر كيف أجبرته على تقديم تقرير عما يقرأ، حتى وإن لم تستطع هي قراءة هذه التقارير، كونها لا تعرف القراءة والكتابة! كيف علمت أن إعادة صياغة وكتابة ما فهمه من قرائة كتاب واحد خير من قراءة عشرة كتب قراءة عابرة؟ هذه أم عبقرية أقدم قصتها وما أنجزته في ولدها هدية لنا جميعاً، أمهات، وآباء، وأبناء!

هناك تعليقان (2):

Rain_Drops يقول...

عرضك للكتاب ممتاز يا شدو ، عندي لك مكافأة موقع لقيت عليه كتب إنجليزي آدينا بنحاول نفك الخط فيها ، للأسف كتير من الكتب لها علاقة بالأديان بس
http://revelation-online.blogspot.com/

Mohamed Shedou محمد شدو يقول...

شكرا يا محمود
الموقع حلو يا محمود
بس الواحد يلاقي وقت منين يقرا كل ده

تابع جديد المدونة على بريدك الالكتروني

أرشيف المدونة

مرحباً بالزائرين