الاثنين، مايو 18، 2009

متعة وحسرة!

لربما يذهب عقلك مع قرائة هذا العنوان إلى أنواع المتع المحرمة وما يتبعها من ندم. عافانا الله وإياكم! لكنني اليوم أتحدث عن متعة بريئة نظيفة، ومع برائتها فإنني لا أستطيع أن أنعم بها خالصة لوجه المتعة وترويح النفس. فقد تركت أوطاناً وعبرت بحاراً مدفوعاً إليها باحثاً عنها - بين أشياء أخرى - فإذا بي لا أكاد آتيها إلا وشابها شيء من الفكر والهم.. ولا مانع من بعض الغضب، وجرعة من الدهشة والعجب! أما النعمة فهي مشاهد الجمال في الأرض، ولقد قلت في موضع آخر أن طلب الجمال يكاد أن يكون فريضة على كل ذي فطرة سليمة!

أمر عليها أو أذهب إليها وهي مني قريبة، سهلة المنال، متاحة لكل مقيم وعابر. ولا يتطلب الأمر سوى عينين في الرأس حباهما الله نعمة البصر وقدرة النظر!

إنني أمشي في شارع سكني متوسط، فأنظر في بيوت قد اصطفت في نظافة ومنظر حسن، ورصيف واسع، تقف عليه أشجار كثيرة، ويتمدد تحتها شريط أخضر على جانبي الشارع. وأقول في نفسي ما أكثر أشباه هذا الشارع في هذا البلد، حتى تكاد ألا يحصر لها عدد! فهذا الجمال - وهو في رأيي شيء طبيعي ولا ينتمي بحال إلى فئة المعجزات - هذا الجمال ليس محصوراً على قطاع ضيق من أصحاب السلطة والمال (لاحظ من فضلك: السلطة أولاً!) ممنوعاً عمن سواهم، كما هو الحال في بلاد المفسدين في الأرض! هذا ما أراه في الأحياء المتوسطة، ناهيك عن أماكن التنزه العامة، أو ما تراه في مدينة كبيرة مثل شيكاغو تطل على بحيرة، فإذا بمن صمم المدينة (جزاه الله خيراً!) قد وضع متنزهات خضراء تمتد لأميال وأميال، على ضفاف البحيرة الواسعة. ثم قام عليها رجال - جيل من بعد جيل - فلم يقرروا أن هذه المساحات الخضراء الشاسعة أحق لها أن تردم، حتى تقوم على رفاتها شقق سكنية فاخرة تدر مئات الملايين على حفنة من "رجال الأعمال"! لقد تركوها لأصحابها: سكان هذه الأرض!

ما زلت أذكر ما قاله لى أخى الأكبر د. عبد المجيد بعد عودته من أول رحلة له خارج حدود الوطن إلى باريس منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، فقد أثارت مشاهد النظافة والجمال في المدينة الفرنسية غيرة في نفسه على حال وطنه، وعبث بذهنه هذا السؤال الأبدي الذي لا يفتأ يتتبعني - وكأنه قبس من لعنة الفراعنة: ولم لا تكون بلدنا هكذا؟! وقد يتبعه هذا السؤال الآخر الملعون: إن مسؤلينا الكرام يسافرون إلى بلاد الفرنجة اللئام، أفلا يعودون إلى وطنهم وفي قلوبهم شيء من حسرة وبعض من رغبة أن يكون لوطنهم نصيب من النظافة والجمال؟ لقد كان الخديوي إسماعيل رجلاً ذا نخوة حين قرر أن يجعل مصر قطعة من أوربا، أو على الأقل أن يحاول. كان "رجلاً" و "ذا نخوة"، والكلام لكي يا جارة!

لكن اللوم لدينا لا يقع فوق رؤوس المسؤلين وحدهم (نرجو أن يقع فوق هذه الرؤوس بلطف حتى لا تنكسر!)، فنحن نتساءل أيضاً: وأين أغنياء الوطن؟ دعني أنظر في نموذج واحد ورقعة صغيرة من ربوع الوطن، وهي مدينة مولدي وحياتي الأولى: المحلة الكبرى. إن في هذه المدينة - على صغرها - قدر كبير من الثروة. ومع ذلك فما يصلني أنها تهبط في مدارج سوء الحال من قبيح إلى أقبح. ومعلوم أن الأثرياء في البلاد المباركة لابد وأن تكون لهم علاقات ود وصداقة مع السلطة. والسؤال المحير: ألا يضيق مليارديرات المحلة الكبرى بقبح مدينتهم؟! إن أموالهم وعلاقاتهم لها أن تمكن لهم في المدينة، أفلا يحبون أن يسكنوا ويعملوا في مدينة نظيفة خضراء؟ نعم نعلم أن أموالهم تتيح لهم السفر إلى بلاد الجمال والحضارة، لكنهم يا ربي يمضون طرفاً لا يستهان به من حياتهم في هذا القبح! قد تقود سيارة فارهة، ولكن ألا تزيد متعتك بها إن أنت نظرت من داخلها إلى خارجها فرأيت شوارع مرصوفة وأشجاراً تصطف على جانبي الطريق؟! وما تفعل ببضعة أمتار جميلة - سيارة وقصراً إن شئت - وسط صحراء جرداء من القبح وسوء الحال؟!

لا يكاد يتركني الهم بهذه الأفكار والعجائب كلما أعجبني ما أرى وقارنته بما تركت ورائي فنشب أظافره في نفسي وخواطري فلا أظنه مفارقي ما حييت! أذكر زمناً غير يسير قضيته في هذا البلد - مهجري - وفوق صدري هم شديد وظروف معاندة. كنت أرى في مشاهد الطبيعة في مدينتي عزاءً كافياً. كنت أختار أحد مواقعي المفضلة، فأذهب وأجلس وأنظر إلى خضرة كثيفة، وماء، وجمال يغلب على كل ما حولي، فأتحسر على أهل مصر، أين لهم بمثل ذلك؟! وأتذكر نفسي منذ زمن ليس ببعيد أقلب عيني فيما حولي بغم وفزع، وأقول ها أنا أعاين الإفساد في الأرض وأنظر إليه بعين اليقين! ويزيد الغم مع قرصة صوت الحق وهو يكرر: ليتنا نعيش في بلد فقير منكوب، لكننا نمشي وسط صفيحة قمامة عملاقة لأن الرجال من آبائنا وأجدادنا - رحمهم الله وغفر لهم - تركوا أبوابهم مفتوحة لقطاع الطريق! إن أرض مصر قادرة والله على إنبات الشجر وإسعاد البشر، وأهلها يستحقون مثل كل إنسان خلقه الله على الأرض أن يعيشون في ظروف قريبة من ظروف الأمريكي أو الأوروبي، ولم لا؟!!! (أرجو ألا يحدثني محدث عن عيوب الغرب إلخ إلخ إلخ، فأنا أعلمها جيداً، ولكن تعالوا نجعل بلادنا مثل بلادهم، ثم نجلس على الحشيش الأخضر، أمام بيوتنا النظيفة، في شارع سكني متوسط، ثم نقارن كما يحلو لنا ونفرح بمميزاتنا!).

رحمك الله يا خديوي اسماعيل حين رأيت الجمال الأوروبي فأردت أن تجعل مثله في بلدك... لقد كنت رجلاً، وفي قلبك غيرة الرجال ونخوتهم!


صورة من الشارع الذي أسكن فيه حالياً في مدينة شيكاغو، وهي منطقة متوسطة عن جدارة ولا تنتمي إلى الثراء بأي حال! وهو مشهد معتاد وطبيعي في الشوارع السكنية، وهنالك أفضل منه بالطبع في المناطق الأغنى.

ليست هناك تعليقات:

تابع جديد المدونة على بريدك الالكتروني

أرشيف المدونة

مرحباً بالزائرين