الاثنين، أغسطس 11، 2008

الرضا: كلمة معادة وقيمة لا تبلى

في تدوينة سابقة جاءني تعليق من صديقتي في التدوين نسرين، فيه نقد ذاتي وسؤال. والنقد الذاتي، أو المشكلة، هي عدم الشعور بالرضا، عن النفس وعما يحدث للنفس. ورأيت أن أفرد لتفكري في هذه الأسئلة تدوينة. أقول تفكري ولا أقول جوابي أو حلولي. فهذه مشاكل إنسانية يشترك فيها أكثر الناس بدرجات وأشكال متفاوتة، ولا شك أنني منهم. والكتابة أحياناً ما تكون تفكيراً مسموعاً، أو مرسوماً، على مرأى من الكاتب ومن الآخرين، وهذا التجسيد لهواجس النفس ومحاورات العقل يعين من يكتب على زلاته، ويقرب أعماق نفسه من حسه. وسوف أحاول أن أبحث عن إجابة بها -أنا والسائلة وكل زائر أو عابر سبيل - ننتفع؛ لعل ظلمات السخط أن تنقشع، وأنوار السكينة أن ترتفع!

أما نقد الصديقة صاحبة السؤال لذاتها فحقيق بتعقيب ولو سريع. أقول لها فقط أنه نعمة وبشارة. فإن الأعمى إن ظن نفسه مبصراً تحامق في سيره، وأهلك نفسه وغيره. ومريض تغاضى عن علته، وفرح بصحته، لا ينظر إلا هلكته.

تقول نسرين أنها ساخطة على نفسها، دائمة النظر إلى أخطائها، وأنها قد اتخذت من جلد الذات هواية لها. وكما مدحت نقد الإنسان لذاته، وإدراكه لعيوبه وزلاته، فإن كل حسن قد يتطرف فيضر ولا ينفع. ولعل الوسطية التي تلوكها ألسنتنا وأقلامنا كثيراً هي ما نبغي، فالوسط أو التوازن بين أضداد يوفر مجالاً مثالياً لحركة الإنسان في الأرض/المادة، وحياة نفسه في الروح. وهذا الوسط هنا هو توازن بين إدراك المرء لعيوبه، وتيقظه لأخطائه في الفعل والفكر، وبين تسامح الإنسان مع نفسه.

ولعل مما يعين الإنسان في مسامحته لنفسه هو تذكيرها أن الله غفور رحيم. ففي حديث واحد لنبي الإسلام عن هذا المعنى يقول أن الإنسان لو لم يخطيء فيستغفر الله فيغفر له، لجاء الله بخلق آخر يخطئون فيغفر الله لهم. وهو ما يبين أن الخطأ طبع إنساني معروف ومفهوم، ينظر له الخالق برحمة وود. وفي موضع شديد الأهمية من قصة الإنسان يخبرنا القران عن خطأ أبينا الأول، آدم عليه السلام، وكيف غفر الله له ذنبه بعد قليل من زلته. ولننظر قليلاً في بعض دروس هذه الخطيئة الأولى. اقرأ الآية:
"ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما"
نعم، نعم! هذا نحن! كثيراً ما ننسى ويضعف منا العزم، أو الإرادة كما نسميها الآن. ومنشأ المشكلة هنا يكمن في "النسيان". انظر للآية وكيف أن النسيان فيها يسبق خوار الإرادة. ولذلك أيضاً يطلق على القران اسم "الذكر"، من التذكير والتذكر، وهو ضد النسيان. بل وقد تتلخص وظيفة الأنبياء في إنقاذ الإنسان من آفة النسيان: "إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر". وأريد أن أخلص من رسالة هذه الخطيئة الأولى إلى أمرين؛ أولهما قرب المغفرة الإلهية لأخطاء الجهل والنسيان: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم"، وأنه أولى بنا إذا انغمسنا في جلد الذات أن نقول لهواجسنا: ألا نسامح أنفسنا والله ذاته جل وعلا يغفر الذنوب جميعاً؟ وأين نحن من الله حتى يغفر هو ولا نغفر نحن؟! كما أن طلب المغفرة لابد أن يصحبه تيقن في قرب الإجابة: "ادعوني أستجب لكم"، ومن ثم فإن علينا أن ندرك أن عدم تسامح الإنسان مع نفسه هو من ضعف التصديق في مغفرة الله!

وإن هنالك أيضاً وصفة سحرية أجدى وأصلح من الهم بالأخطاء، إذا أردنا حياة إيجابية تعرض عن اللغو (والهم بالماضي لغو، إلا نظر للعبرة والفهم والدرس)، وتقبل على ما ينفع، وهذه الوصفة النبوية هي: "أتبع السيئة الحسنة تمحها". وهذه الوصفة العبقرية تهديك للانشغال بالحسنة بدلاً من الانشغال بالسيئة، فإن في تحول الخاطر من قبيح فعلناه إلى حسن نخطط لفعله مبعث للتفاؤل وشفاء للنفس. وإن تكرار محو السيئة بالحسنة لخليق أن ينزع السيئة من جذورها في النفس، حتى يستريح المرء منها إلى غير رجعة.

وتشير نسرين في تعليقها أيضاً لما نعرفه جميعاً من دعاء بلا إجابة، فأنت ترى الخير لنفسك وترجوه، فتدعو الله ثم تدعوه، ولا يتحقق شيء. فتتساءل لم يا رب لا تعطيني هذا الذي أبغيه! وربما قلت لنفسك كم من دعاء ألححت به ولم ألق رداً، ولم يعطني الله ما أريد! وظني أنه علينا أن نستخدم ما أقسم الله به في بدايات الوحي: "القلم"! يعني إن عجزت عن تذكير نفسك بما يجب أن تذكره، اكتبه وعد إليه بين الحين والحين. تقول نسرين مثلاً أنها تعلم تماماً أن الله أخرجها من مآزق كثيرة وأجاب لها حاجات سابقة. والحل هو أن "تدون" - أو تسجل إن شئت! - ما تستطيع تذكره من هذه الأحداث. هذا فيما يتعلق بما سبق وأجابه الله من دعاء. لكن الواقع لا يخفى، نعم كثيراً ما ندعو ولا يستجاب لنا. وأعود هنا لآفة النسيان. وحديثي بالطبع أوجهه للمؤمن الذي يحتاج لتذكر ما يؤمن به، وهو التالي: أن الله ينظر لحياتك من عل، فيرى ما لا تراه أنت. فأنت يا ابن آدم لا تكاد تبصر أمامك شبراً أو متراً، إلا محض ظن. فأنا إذ أكتب كلمة في ساعتي هذه لا أعلم يقيناً على أي حال سوف أنهيها! وقد ترى طريقاً أوله رحمة فتشتهيه، غير أن في آخره عذاباً لو اطلعت عليه لوليت منه فراراً، ولملئت منه رعبا! ومن جهة أخرى فإن تأخير الخير كثيراً ما يكون من لوازم التربية الإلهية للنفوس. ولو ظفر الإنسان بكل ما يشتهي فور اشتهائه لفسدت نفسه. كما أن ذلك لا يمكن أن يكون من طبائع الحياة الدنيا. ولعلنا نغفل كثيراً عن كون الدنيا مجرد حياة أولى، غير أبدية، وأن الهدف منها ليس تحصيل الإنسان للمتعة وخلوده للراحة والنعيم. والهدف الأصدق هو صقل الإنسان لذاته والعلو بها في مدارج العلم والعمل، على مر الأيام وتقلب الأحوال. وإن هذا التقلب ذاته بين الخير والشر، والعسر واليسر هو وسيلة إثراء وتنمية ثروتك الوحيدة في الحياة: نفسك!

طالت هذه التدوينة، وفرغ ذهني في هذه الساعة من تكملة لحديث في هذا الأمر. فأرجو أن أكون قد أفدت الصديقة السائلة شيئاً يكفر عن تأخري في الرد!

هناك 5 تعليقات:

Qusay يقول...

يعلم الله انك لمست الوتر الحساس لما يدور في ذهني و يؤرق مضجعي

Unknown يقول...

صدقت
الراضا عظيم وتكمن العظمه فى قدره كل انسان على التكيف مع حياته ان كان راضيا تحياتى

Mohamed Shedou محمد شدو يقول...

princejimi

الحمد لله يا صديقي ان كتبت شيئا له معنى! وشكرا لك على التصريح بذلك

احمد بدر الدين

شكرا يا احمد، والتكيف هو احد مرادفات او مظاهر الرضا بالفعل وهي ملحوظة جميلة منك

Rain_Drops يقول...

جميلة كالعادة يا شدو ، أنا المرة دي عايز أديلك آخر عدد من سلسلة القصص المفضلة عندي ، اللي خلاني أفكر فيك و أنا بقرا بدايتها إنها بتدور في نورث داكوتا على الحدود الكندية اللي انت اخترقتها ، جربها و قل لي رأيك
http://www.4shared.com/file/58608357/d84dd63b/__online.html

لو فيه باسورد على الملف هتبقى
www.dvd4arab.com

Mohamed Shedou محمد شدو يقول...

يا محمود انت واخد عني فكرة غلط خالص وبتحسبني بقرا كتير بقى وكده
بلاش حسن الظن ده
:)

بس عموما انا فعلا كنت بحب كتابات الراجل ده من بين بتوع المؤسسة العربية لان اسلوبه جديد وتعبيراته غير معتادة
ادعيلي اقرا كتير وانا اقرا كل الحاجات اللي بعتها ليا

تابع جديد المدونة على بريدك الالكتروني

أرشيف المدونة

مرحباً بالزائرين