الجمعة، يناير 02، 2009

هل أصبح الإسلام "أكثر غربة" مما بدأ؟

أكثرنا يعلم هذا الحديث الوارد عن نبي الإسلام: "سوف يعود الإسلام غريباً كما بدأ". وقد ننظر حولنا فنقرر أن هذا زمن تحققت فيه هذه النبوءة. قد يرتفع صوت قائلاً: لا لا، الإسلام بخير إلى أبد الآبدين، والمسلمون أكثر من مليار نفس تدب فوق أكثر، إن لم يكن كل جنبات الأرض. لكن هذه الكثرة ذاتها تذكر بحديث آخر: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم كغثاء السيل!". فإن أردت أن تتهمني بالادعاء على الدين، أحلتك إلى قول النبي هذا، ثم أدعك لتصديقك. أي خير في غثاء؟ إنها كلمة توحي بانعدام القيمة. نعم وربي! وما فعلت هذه المليارات الغفيرة؟ لن ننظر في رفاهات الحرية والعلم وأشياء من هذا القبيل، لكن هلم بنا فقط لا نغض أبصارنا عن واقع آخر، كم بطن من هذه البطون تريح صاحبها من قرصة الجوع لكي يستطيع ممارسة أحواله الإنسانية التي لا تستقيم على بطن خاو؟ هل انتفعت هذه الحشود بعددها؟ هل ضمنت قوتها، وأعانت ضعيفها، وأطعمت جائعها، وكفت فقيرها؟ لو كانت الإجابة بلا فلا يحدثني أحد عن أمة بخير أو نصف خير. ولا ربع خير، ولا أقل! انس هذه الكلمة - "خير" - الآن!

بل إن هذه كثرة تحولت إلى نقمة! إن هذا السيل من البشر قد تحول لفيضان يهلك ويغرق، بعد أن كان ماء بالخير يغدق! إن إنساناً واحداً يعيش البؤس يثقل على قلب الأرض، فما بالك بمئات الملايين! وبطن جائع عار على جاره، فما بالك بملايين! ورجال محرومون ونساء من البيات آمنين على أنفسهم، يعتصر لهم قلب الإنسانية، تزداد أعدادهم كل يوم وكأن الجور يلد في كل يوم أولاداً له يواصلون قبيح سيرته، وظلمة هيئته! وتأتي الكثرة فتزيد الصعب صعوبة، والفقر فقراً، بدلاً من أن نفرح بما يأتي معها من حياة جديدة.

لقد بدأ الإسلام غريباً يكرمه أهله ويعاديه كارهوه. فما بالك بغربة يهينه فيها أهله! لقد كان له في غربته الأولى رجال ونساء يأوي إليهم إذا اشتدت ظلمات غربته، فيجد في قربهم راحة وريحانا. أما اليوم فقد صبغه أهله بالسواد، وأصبح كابن السبيل لا بيت له، يدور في الأرض فيبيت ليلة هنا وليلة هناك، عند نفر قليل من أهل محبين ومخلصين. ولقد ينعق بعض من حملوا اسمه: تعال هنا في بيتك وبين ناسك وأهلك. فما أن يستجيب للدعوة ويذهب مستبشراً بالأرض والعزوة، حتى يعود مذعوراً من حيث أتى، يتخفى منهم حتى لا يعرفوه فيمسكوا به، خشية أن يهلك بين أيديهم فتزهق روحه للأبد! بل وكثيراً ما لبى دعوات، فذهب فأنكروه، وكادوا أن يفتكوا به! ويقابل في طريقه بشراً نظيفي الفطرة والعقل، فيحبهم وهم له كارهون! ولو عرفوا هويته لصادقوه وأحبوه، لكن أنى له أن ينكر أولاده، فالقصة طويلة وشرحها معقد! ومنهم من يهيء له القدر التعرف عليه في هدوء، بعيداً عن الغثاء الكثير من أهله، فيجدون في قربه راحة، ويعرفون في جواره صدقاً ورحمة، فيقولون له ما أبعد سيرتك عن حقيقتك! أو صورتك عن سيرتك! لشدما ظلمك أهلك، وجعلوك في الأرض غريباً!

فيفكر في نفسه: ما أبعد غربة اليوم عن غربة الأمس وما أغربها من غربة. لقد كنت بالأمس غريباً لكني كنت واثقاً، مستريح القلب والبال. فظلم العدو أهون على النفس من جور القريب وجهله. والله لا أبالي أن يكثر أعدائي أو يشتدوا، فهم إنما يحاربون بسلاح وعدة، وأنا أحارب برب كل ذلك. لكن ما أفعل في كثرة أصدقاء جهله، وأقرباء خائنين، وأهل غائبين! لله ما أشد غربة اليوم، وأطول ليلها، وأعسر كسرها. ما يفعل الفاعل في أهل خذلوه؟ أيتبراً منهم؟ أيعاديهم؟ فما بالهم حتى لا يتركوني لحالي، أسير في الأرض على سجيتي وأعامل الناس بسيرتي وسريرتي! ما بالهم يحجرون علي أن أصادق من هو أهل لصداقتي، حتى لو لم ينتمي إلى هويتي، وأعادي من هو أهل بعدائي، حتى لو حمل اسمي وادعى محبتي! ولم يظنون أنهم يعرفونني أكثر من معرفتي بنفسي، وهم أبناء عمر قصير، وأنا عمري عمر الأزل! ولم يمسكون يدي أن أصلح في الأرض، مهما كان من دب فوقها كافراً بي أو مؤمناً! ويحجرون علي أن أنفق من رحمة وسعت كل شيء! يرمون على جسدي قاذوراتهم، فأمشي في الأرض لا أدري كيف أنظفها وجسدي يثقله ما ألقوه عليه! وأريد أن أتكلم حتى يراني الخلق، فإذا بصوتهم يعلو بقوة عددهم وعدتهم فلا يسمع لي حس! وأصرخ فلا يصل صوتي لأحد، ويظن السامع أن قولهم هو قولي، وهذيهم هو ما في قلبي!

ألم أقل لكم أن غربة اليوم أشد وطئاً من غربة الأمس!

ليست هناك تعليقات:

تابع جديد المدونة على بريدك الالكتروني

أرشيف المدونة

مرحباً بالزائرين