الجمعة، يناير 04، 2008

عيد ميلاد إعلان الحلم

في الثامن والعشرين من أغسطس عام 1963، أعلن مارتن لوثر كنج حلمه. تحقق منه القليل أو الكثير، لكن الذي لا شك فيه هو أن كلمته "أنا لدي حلم" I have a dream ما زالت عنواناً عريضاً في ذاكرة البشرية. أعلن حلمه وهو ابن لواقع صنعته يد الإنسان، ابن آدم الذي كثيراً ما يصغر فيه القلب والعقل، فلا يتعديان حجم جسمين صغيرين في رأس الإنسان وصدره. حينذاك يرى الإنسان أخاه الإنسان في لونه أو عرقه، أو دينه الذي ولد به، أو غناه أو فقره، أو أي مما نولد به، أو نجد أنفسنا فيه دون حيلة منا. يولد كل ابن جديد للبشرية في زمان بعينه ومكان، في واقع يختلط فيه من إفساد الإنسان وإصلاحه قليل أو كثير. ويفضل الله الناس بعضهم على بعض بأقدار من سعة العقل والقلب، تزيد أو تنقص، تبعاً لمشيئة العطاء الإلهي. وكلما اتسع العقل والقلب، كلما ضاقا بما في واقع الناس، وفكرهم، وأخلاقهم، من فساد وإفساد. السعة هي الفطرة، فطرة الكون. ألا ترى امتداد الأرض وسعة السماء! وحين ولد مارتن لوثر كنج وعاش حيث يضيق عالم الإنسان إذا ما اسودت بشرته، ضاقت فطرته، وهي صادقة، بكذب الناس على فطرتهم، حتى اسودت عقولهم، مهما كان لون وجوههم. وحين نرفض شيئاً ونضيق به، فإننا نطلب ضده أو نقيضه. والحلم أحد أبناء الرفض.
غير أن الأحلام، وأشباه الأحلام، دوماً ما تولد في مهدها، في النفوس.. ثم فيها تموت. إلا قليل منها. دعني أولاً أوضح ما أعنيه بأن للحلم أشباه. لكنني في سبيل ذلك سوف أعرف الحلم، لا أشباهه. يكون الحلم حلماً حين يعبر عن فطرة نقية، ويولد عن التصادم مع ضدها. كثيرون منا قرأوا تلك المقولة الموحية يوماً ما، أو سمعوها: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". هي تعبير عن فطرة صادقة.. وكذلك الحلم بألا يستعبد المرء لغيره، أو للظروف. من أعظم الهبات أن يعلم الإنسان كيف يميز بين الكذب وبين الفطرة، بين الصدق وبين الوهم.. بين الحلم وبين أشباهه. الوهم باطل، يطوف حينا بالنفس ويذهب جفاء. أما الحلم الذي ينفع الناس فيجدر أن يمكث في الأرض. ولو لم يمكث إلا حبراً على الأوراق وفكراً في النفوس، حتى يأتي من الناس من يوقنون بصدق فطرتهم وأحلامها حتى الموت، أو حتى الحياة.

عودة إذن إلى أحد هذه الأحلام، حلم مارتن لوثر كينج. ليس حلمه موضوعنا. غير أنني حين قرأت نص حلمه في عيد ميلاد إعلانه الحادي والأربعين، حدثتني نفسي أن عل هذه تكون فرصة لإعلان الأحلام. تتعدد الأحلام، منها ما لا يتسع إلا لفرد وذاته، وشهواته.. ويضم منها في رحابه مجموعات من البشر، أو تجمعات جغرافية وتاريخية وثقافية أصبحت أوطاناً للناس... ومنها ما يمتد بعرض الكون، وعدد الناس، وسعة قلب الإنسان. علني إذن أعلن حلمي للأرض التي شاء الله لي أن أولد فيها وأنتمي إليها، انتماءً هو للإنسان مثل أهله وجسده ولسانه، لا مفر منه أو منهم. وعلها تكون أيضاً دعوة لأن يعلن كل ذي حلم حلمه. ولأن الأحلام تولد، كما أسلفت، من الرفض، فسوف تخبرنا أحلامنا عما نرفضه في واقعنا، مما هو عدو للإنسان وفطرة الإنسان. ومهما أسميت ما يلي بالحلم المصري، فإن فطرة الناس، في طهارتها، تنكر اختلاف الألوان، وتعلو فوق حدود الأوطان.

الحلم المصري

أحلم أن يولد المصري في مصر فيشعر أن الأرض أرضه. في قديم الزمان وحديثه، كذب أناس على الناس وادعوا أن لهم "الحق الإلهي" في الحكم أو في الملك. وأخذوا، بحق كاذب، سلطات حقيقية وأملاك، وقدرة على إفساد الأرض وإصلاحها... ولا يتورع عن إفساد حياة الناس من يستحل الكذب. نسى الناس أن الميلاد يهب لكل منهم "حقاً إلهياً" في الأرض التي يولد فيها، لو لم يُسلب منه لكفاه. ومع ما يوهب من حق في الخيرات، يسأل عما يفعل بها في إعمار ما أُهمل، وإصلاح ما فسد. وحين لا يشعر المصري أن الأرض أرضه، يأخذ منها ويُسأل عنها، علمنا أن الحق الإلهي وجد بين أناس ضيعوه، فأضاعهم إذ لم يحفظوه. قال محمد بن عبد الله (ص) للغلام يعلمه: "احفظ الله يحفظك". ففهمنا من ذلك أن تلك وتيرة الحقوق الإلهية والقوانين، احفظ منها ما شئت فيحفظك، وضيع كذلك ما شئت، ولسوف يضيعك.

وأحلم أن تدرك كل عائلة مصرية أن تربية طفل لها ليست حدثاً تلقائياً، مثل مرور الزمان وتغير عمر الإنسان. الطفل هو مصنع كل فرد، هو أنا وأنت كما نحن الآن، بما فينا من حسنات وقوة، وبما في أنفسنا مما يحول بيننا وبين ما ينبغي أن نكون. رأينا كيف ينهار بناء عملاق أو غير عملاق-وكله عملاق بما يدب فيه من حياة- إذا ما قام على أسس غير أمينة.. كذلك قد يبدد الطفل مستقبل الإنسان وعصارة شبابه. ليس مبلغ الأمانة هو حسن النية.. ويظل الجهل يقبح فيها حتى مبلغ السوء. لاشك أن وقاية تربية فطنة خير من ألف علاج. لو أنشأ نصف المصريين أطفالهم مدركين أن القراءة مثل الطعام، وأن الجسد هو مطية الإنسان، وأن مواهب كنزهم الصغير هي ثروته التي لا تفارقه، التي كلما أنفق منها زادته، والتي تسكن في باطنه مثل البذور توضع في بطن الأرض، لولاها ما كان ثمر أو حياة.. بذور عاجزة فقيرة، لا قيمة لها في ذاتها، ولا وصف يبوح بما فيها من إمكانات، لو وجدت من يرويها ويقوم عليها، حتى تقوم لها قائمة، لقامت في الحياة وأقامت فيها معالم للجمال.

وأحلم أن تغير المدرسة في مصر والجامعة كل حياة تمر عبرها وتقيم فيها، حتى تتكشف مصادر الحياة في كل كيان ينتظم فيها ردحاً من الزمن. لقد خُلق الإنسان ضعيفاً. تضمر قوته إذا ما تركت لذاتها، ولا تبعثها إلا قوة أو قوات، مثلها، أو أعظم منها أو أقل،تمد لها يداً تبني ولا تهدم. كيف تتكشف للحياة حكمة عقول حكيمة لم تجد من يعلمها كيف تقرأ، أو مهارة أطباء ما تعلموا ما أتيح للإنسان من تطبيب، أو ثورة علماء لم يوهبوا من ميراث العلم نصيبا. لقد بلغ العلم مبالغ واقعية في تغيير الواقع، وإمكانات في إحياء حياة الإنسان. هذا إذا ما كان العلم علماً يتفاعل مع العقول ويتخلل النفوس كأنفاس الحياة، لا كتباً يلونها الحبر الأسود، ويحملها الإنسان كما يحمل الأثقال. يجب أن يكون التعليم تشكيلاً للحياة، لا إشكالاً في مادة حياة الناس ومعناها. أحلم أن نجد في بيت مدرس التاريخ مكتبة خاصة، عامرة بما عمر به ماضي الإنسان، وما به فسد.. وفي بيت مدرس اللغة الإنجليزية أو الفرنسية كثيراً مما ينتمي لثقافة لغة تخصصه من مسموع ومقروء... -وتتعدد الأمثلة بتعدد مناهج التعليم- وألا يكون كل هؤلاء وأقرانهم من مدرسي مراحل التعليم الأساسية إلا مضارعين لأستاذ جامعي-كما ينبغي أن يكون- في العلم وفي ثقافة الحياة. أحلم أن تري المدرسة أو الجامعة، فتلمح في مبناها ما يجسد رحابة وجمال ما يتردد بين جنباتها من روح ودود ولود.

أحلم أن تستعيد مفردات اللغة معانيها في نفوس الناطقين بالعربية في مصر وغيرها، فيرفع الناس عن إدراكهم للمفاهيم لغو الكلام، ولغو النقل ولغو الرضا. ليس للناس أن يضفوا على كلمة مثل "مسئول" ما لا يصح أن يضاف لحاملها من غوامض سلطة علوية مثل ضربات القدر. هي ليست إلا كلمة تصف إنساناً يقوم على أمر أو أمور، له حقوق نفاذ الفعل في وظيفته، لأداء مهمته... إذا وضعت كل شيء في موضعه استقر الطريق تحت أقدام البشر، ورفع الوهم يديه عن كل صدر يختنق، وشب العجز عن أطواق الطفولة، وتحول.

أحلم أن تلين الأرض حتى يتحول حلم الباحثين عن الحياة.. من تركها إلى تشكيلها. أن يهاجر المهاجر منها إليها، من كل واقع يتهاوى إلى واقع يصنعه على صورة أحلام فطرته ورؤى عقله. أحلم أن تصفعنا إهانة أن نرى صفوفاً تمتد بالشباب، الواقف على أعتاب الحياة، أمام سفارات الرحيل، أملاً في ورقة صغيرة تتيح له النفاذ من أرض بلا طريق. عل الأرض إن لانت اهتزت أرجاؤها وربت تحت أقدام المهاجرين بين أقاصيها، فتخرج من عزلة القرون الحزينة ويبش وجها المهجور لمهاجرين غير غرباء، تمتليء قلوبهم بحياة لا يصمد لها الخراب أو الموت أو الإفساد. ويلتئم الجسد وأطرافه، فتحيا الأطراف ويحيا الجسد .

أحلم ألا نرى في أحشاء المدينة أطفالاً صغار، يرون التراب في وجه الطرقات ووجه البشر، في جدران البيوت وجدران عقول بلا ضمير. ضلت المدينة وأهل المدينة حين عاش لهم أبناء مثل كلاب ضالة. وقست المدينة كعجوز عمياء، إذ تأوي بين القبور معاشر الأحياء. أحلم أن يهجر الناس زمناً تتعجب فيه الأرض حسرة وهي تسجل، على صفحات تحصي ولا تنسى، خطوات منهكة، لأم عجوز وشيخ متعب، يتململ رزقهم منذ عمر الإنسان خلف أسوار ممتلكات تحرسها الأياد النجسة. يالفشل الناس إذ تمتص الحاجة رحيق إنسانية أبناء لآدم، لكي تفرزه عسلاً مجرماً في صحون الخنازير. أحلم أن تخصب الأراضي البور، فيحصد الإنسان ثمار عمله وثمار مواهبه، وألا تتكبر حاجات الناس من نقص فتعلو عليهم، وتتقاضى منهم العمر والجهد، بل تعود إلى مقام الذل فنعلو عليها.. من أجل أن يعيش الإنسان مثل الإنسان.

وأحلم أن نسدل أستار المسرح العبثي على مدن كالصدف القبيحة، لم تمسها يد إنسان يدرك ما يفعله. في حاضر الناس قصرت المسافات حتى تصبح أحيانا آلاف الأميال أمتاراً معدودات، تفصل الفرد في مواطن القبح عن صور تريه ما صنعته يد الإنسان من جمال في مواطن أخرى من الأرض. من سلامة الفطرة أن يضيق الإنسان بالقبح إذا أحاط به ويسعى لمواطن الجمال. يكاد طلب الجمال أن يكون فريضة على كل ذي فطرة سليمة. حين خلق الله الإنسان على شاكلته جعل فيه موهبة الخلق وإبداعه، غير أن الإنسان حين يستحكم للجهل والفوضى، ويئد إدراكه للجمال كما وأد جهال التاريخ بناتاً لهم، يبلغ به سوء الحال وسوء الحياة مبالغ تنفي ما فينا من صفة الإنسان.
أحلم أن توقظنا شمس الجمال، المشرقة ليلاً ونهاراً، فنفيق من سكرة العبث إلى صحوة الواقع وجماليات تشكيله، والعيش فيه.

ليست هناك تعليقات:

تابع جديد المدونة على بريدك الالكتروني

أرشيف المدونة

مرحباً بالزائرين